فصل: سئل: عن الزيت إذا وقعت فيه النجاسة ؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن الخمرة إذا انقلبت خَّلاً ولم يعلم بقلبها، هل له أن يأكلها أو يبيعها‏؟‏ أو إذا علم أنها انقلبت، هل يأكل منها أو يبيعها‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما التخليل ففيه نزاع‏.‏ قيل‏:‏ يجوز تخليلها ـ كما يحكى عن أبي حنيفة‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجوز، لكن إذا خللت طهرت‏.‏ كما يحكى عن مالك‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز بنقلها من الشمس إلى الظل، وكشف الغطاء عنها، ونحو ذلك، دون أن يلقى فيها شيء‏.‏ كما هو وجه في مذهب الشافعي وأحمد‏.‏

وقيل‏:‏ لا يجوز بحال‏.‏ كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد، وهذا هو الصحيح، فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه سئل عن خمر ليتامى فأمر بإراقتها‏.‏ فقيل له‏:‏ إنهم فقراء، فقال‏:‏ ‏(‏سيغنيهم الله من فضله‏)‏ فلما أمر بإراقتها، ونهي عن تخليلها، وجبت طاعته فيما أمر به، ونهي عنه‏.‏ فيجب أن تراق الخمرة ولا تخلل‏.‏ هذا مع كونهم كانوا يتامى، ومع كون تلك الخمرة كانت متخذة قبل التحريم، فلم يكونوا عصاة‏.‏

/فإن قيل‏:‏ هذا منسوخ؛ لأنه كان في أول الإسلام، فأمروا بذلك كما أمروا بكسر الآنية وشق الظروف ليمتنعوا عنها، قيل‏:‏ هذا غلط من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن أمر الله ورسوله، لا ينسخ إلا بأمر الله ورسوله، ولم يرد بعد هذا نص ينسخه‏.‏

الثاني‏:‏ أن الخلفاء الراشدين ـ بعد موته صلى الله عليه وسلم ـ عملوا بهذا‏.‏ كما ثبت عن عمر بن الخطاب أنـه قـال‏:‏لا تأكلوا خل خمر، إلا خمرًا بدأ الله بفسادها، ولا جناح على مسلم أن يشـتري مـن خـل أهل الذمة‏.‏ فهذا عمر ينهى عن خل الخمر التي قصد إفسادها، ويأذن فيما بدأ الله بإفسادها، ويرخص في اشـتراء خـل الخمـر‏.‏ مـن أهل الكتاب؛ لأنهم لا يفسـدون خمرهم، وإنما يتخلل بغير اختيارهم‏.‏ وفي قول عمر حجة على جميع الأقوال‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ الصحابة كانوا أطوع الناس لله ورسوله، ولهذا لما حرم عليهم الخمر أراقوها، فإذا كانوا مع هذا قد نهوا عن تخليلها وأمروا بإراقتها، فمن بعدهم من القرون أولى منهم بذلك، فإنهم أقل طاعة لله ورسوله منهم‏.‏

يبين ذلك أن عمر بن الخطاب غلظ على الناس العقوبة في شرب/الخمر، حتى كان ينفي فيها؛ لأن أهل زمانه كانوا أقل اجتنابًا لها من الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون زمان ليس فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه‏؟‏‏!‏ لا ريب أن أهله أقل اجتنابًا للمحارم، فكيف تسد الذريعة عن أولئك المتقين، وتفتح لغيرهم، وهم أقل تقوى منهم‏.‏

وأما ما يروى‏:‏ خير خلكم خل خمركم، فهذا الكلام لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، ومن نقله عنه فقد أخطأ، ولكن هو كلام صحيح، فإن خل الخمر لا يكون فيها ماء، ولكن المراد به الذي بدأ الله بقلبه‏.‏ وأيضًا، فكل خمر يعمل من العنب بلا ماء فهو مثل خل الخمر‏.‏

وقد وصف العلماء عمل الخل‏:‏ أنه يوضع أولاً في العنب شيء يحمضه حتى لا يستحيل أولاً خمرًا‏.‏ ولهذا تنازعوا في خمرة الخلال‏:‏ هل يجب إراقتها‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد وغيره‏:‏ أظهرهما وجوب إراقتها، كغيرها؛ فإنه ليس في الشريعة خمرة محترمة، ولو كان لشيء من الخمر حرمة، لكانت لخمر اليتامى، التي اشتريت لهم قبل التحريم، وذلك أن الله أمر باجتناب الخمر، فلا يجوز اقتناؤها، ولا يكون في بيت مسلم خمر أصلاً‏.‏ وإنما وقعت الشبهة في التخليل؛ لأن بعض العلماء اعتقد أن التخليل إصلاح لها، كدباغ الجلد النجس‏.‏

وبعضهم قال‏:‏ اقتناؤها لا يجوز؛ لا لتخليل، ولا غيره‏.‏ لكن/ إذا صارت خلا فكيف تكون نجسة‏؟‏‏!‏ وبعضهم قال‏:‏ إذا ألقى فيها شيء تنجس أولاً، ثم تنجست به ثانيًا، بخلاف ما إذا لم يلق فيها شيء فإنه لا يوجب التنجيس‏.‏

وأما أهل القول الراجح فقالوا‏:‏ قصد المخلل لتخليلها هو الموجب لتنجيسها، فإنه قد نهي عن اقتنائها، وأمر بإراقتها، فإذا قصد التخليل، كان قد فعل محرمًا‏.‏ وغاية ما يكون تخليلها كتذكية الحيوان، والعين إذا كانت محرمة، لم تصر محللة بالفعل المنهي عنه؛ لأن المعصية لا تكون سببًا للنعمة والرحمة‏.‏

ولهذا لما كان الحيوان محرمًا قبل التذكية، ولا يباح إلا بالتذكية فلو ذكاه تذكية محرمة مثل أن يذكيه في غير الحلق واللبة مع قدرته عليه‏.‏ أو لا يقصد ذكاته، أو يأمر وثنيًا أو مجوسيًا بتذكيته، ونحو ذلك لم يبح‏.‏ وكذلك الصيد إذا قتله المحِرْم لم يصر ذكيًا، فالعين الواحدة تكون طاهرة حلالاً في حال، وتكون حرامًا نجسة في حال‏.‏ تارة باعتبار الفاعل‏:‏ كالفرق بين الكتابي والوثني، وتارة باعتبار الفعل كالفرق بين الذبيحة بالمحدد وغيره‏.‏ وتارة باعتبار المحل وغيره كالفرق بين العنق وغيره‏.‏ وتارة باعتبار قصد الفاعل كالفرق بين ما قصد تذكيته وما قصد قتله‏.‏ حتى إنه عند مالك والشافعي وأحمد إذا ذكى الحلال صيدًا أبيح للحـلال دون المحرم، فيكون حلالاً طاهرًا في حق هذا /حرامًا نجسًا في حق هذا، وانقلاب الخمر إلى الخل من هذا النوع مثل ما كان ذلك محظورًا، فإذا قصده الإنسان لم يصر الخل به حـلالاً، ولا طاهرًا، كما لم يصر لحم الحيوان حلالاً طاهرًا بتذكية غير شرعية‏.‏

وما ذكرناه عن عمر بن الخطاب هو الذي يعتمد عليه في هذه المسألة، أنه متى علم أن صاحبها قد قصد تخليلها لم تشتر منه، وإذا لم يعلم ذلك، جاز اشتراؤها منه؛ لأن العادة أن صاحب الخمر لا يرضى أن يخللها‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل عن الزيت إذا وقعت فيه النجاسة مثل الفأرة ونحوها، وماتت فيه‏.‏ هل ينجس أم لا‏؟‏ وإذا قيل ينجس‏:‏ فهل يجوز أن يكاثر بغيره حتى يبلغ قلتين أم لا‏؟‏ وإذا قيل تجوز المكاثرة‏:‏ هل يجوز القاء الطاهر على النجس، أو بالعكس، أو لا فرق‏؟‏ وإذا لم تجز المكاثرة وقيل بنجاسته هل لهم طريق في الانتفاع به مثل الاستصباح به أو غسله إذا قيل يطهر بالغسل أم لا‏؟‏ وإذا كانت المياه النجسة اليسيرة تطهر بالمكاثرة هل تطهر سائر المائعات بالمكاثرة أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله‏.‏ أصل هذه المسألة أن المائعات إذا وقعت فيها نجاسة‏:‏ فهل تنجس وإن كانت كثيرة فوق القلتين‏؟‏ أو تكون كالماء فلا تنجس مطلقًا إلا بالتغير‏؟‏ أو لا ينجس الكثير إلا بالتغير كما إذا بلغت قلتين‏.‏ فيه عن أحمد ثلاث روايات‏:‏

إحداهن‏:‏ أنها تنجس ـ ولو مع الكثرة‏.‏ وهو قول الشافعي وغيره‏.‏

والثانية‏:‏ أنهـا كالماء‏.‏ سواء كانت مائية أو غير مائية،/ وهو قول طائفة من السلف والخلف ـ كابن مسعود، وابن عباس والزهري، وأبي ثور، وغيرهم‏.‏ وهو قول أبي ثور نقله المروذي عن أبي ثور، ويحكى ذلك لأحمد فقال‏:‏ إن أبا ثور شبهه بالماء، ذكر ذلك الخَّلال في جامعه عن المروذي‏.‏ وكذلك ذكر أصحاب أبي حنيفة أن حكم المائعات عندهم حكم الماء، ومذهبهم في المائعات معروف فيه‏.‏ فإذا كانت منبسطة بحيث لا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الآخر، لم تنجس، كالماء عندهم‏.‏ وأما أبوثور فإنه يقول‏:‏ بالعكس‏.‏ بالقلتين كالشافعي‏.‏ والقول أنها كالماء‏:‏ يذْكر قولاً في مذهب مالك، وقد ذكر أصحابه عنه في يسير النجاسة إذا وقعت في الطعام الكثير روايتين‏.‏ وروى عن أبي نافع من المالكية في الحباب التي بالشام للزيت تموت فيه الفأرة‏:‏ إن ذلك لا يضر الزيت، قال‏:‏ وليس الزيت كالماء‏.‏ وقال ابن الماجشون في الزيت وغيره تقع فيه الميتة، ولم تغير أوصافه، وكان كثيرًا لم ينجس، بخلاف موتها فيه، ففرق بين موتها فيه، ووقوعها فيه‏.‏ ومذهب ابن حزم وغيره من أهل الظاهر أن المائعات لا تنجس بوقوع النجاسة إلا السمن، إذا وقعت فيه فأرة، كما يقولون‏:‏ إن الماء لا ينجس إلا إذا بال فيه بائل‏.‏

والثالثة‏:‏ يفرق بين المائع المائي‏.‏ كخل الخمر، وغير المائى كخل العنب، فيلحق الأول بالماء دون الثاني‏.‏

/وفي الجملة، للعلماء في المائعات ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها كالماء‏.‏

والثاني‏:‏ أنها أولى بعدم التنجس من الماء؛ لأنها طعام وإدام، فإتلافها فيه فساد، ولأنها أشد إحالة للنجاسة من الماء، أو مباينة لها من الماء‏.‏

والثالث‏:‏ أن الماء أولى بعدم التنجس منها لأنه طهور‏.‏ وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع، وذكرنا حجة من قال‏:‏ بالتنجيس، وأنهم احتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن كان جامـدًا فألقوها ومـا حـولها، وكلوا سـمنكم‏.‏ وإن كـان مـائعًا فـلا تقربـوه‏)‏‏.‏ رواه أبو داود وغيره، وبينَّا ضعف هذا الحديث‏.‏ وطعن البخاري والترمذي وأبو حاتم الرازي والدارقطني وغيرهم فيه، وأنهم بينوا أنه غلط فيه معمر على الزهري‏.‏

قال أبو داود‏:‏ ‏[‏باب في الفأرة تقع في السمن‏]‏ حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ألقوها وما حولها وكلوه‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ثنا أحمد بن صالح والحسين بن على ـ واللفظ للحسين ـ /قالا‏:‏ ثنا عبد الرزاق قال‏:‏ أنبأنا معمر عن الزهري عن سـعيد بن المسـيب عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏إذا وقعت الفأرة في السمن، فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها‏.‏ وإن كان مائعًا فلا تقربوه‏)‏ قال الحسن‏:‏ قال عبد الرزاق‏:‏ ربما حدَّث به معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو داود‏:‏ قال أحمد بن صالح‏:‏ قال عبد الرزاق‏:‏ قال‏:‏ أخبرنا عبد الرحمن بن مردويه، عن معمر، عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الزهري عن سعيد بن المسيب‏.‏ وقال أبو عيسى الترمذي في جامعة‏:‏

‏[‏باب ما جاء في الفأرة تموت في السمن‏]‏

حدثنا سعيد بن عبد الرحمن وأبو عمار قالا‏:‏ حدثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن فماتت فسئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ألقوها وما حولها وكلوه‏)‏‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وقد روى هذا الحديث عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ولم يذكروا فيه عن ميمونة‏.‏ وحديث ابن عباس عن ميمونة أصح‏.‏

/وروى معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وهو حديث غير محفوظ‏.‏ قال‏:‏ سمعت محمد بن إسماعيل يقول‏:‏حديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا خطأ‏.‏ قال‏:‏ والصحيح حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة‏.‏

قلت‏:‏ وحديث معمر هذا الذي خطأه البخاري، وقال الترمذي إنه غير محفوظ، هو الذي قال فيه‏:‏ إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقـربـوه‏.‏ كما رواه أبـو داود وغيره‏.‏ وكذلك الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ في مسنده وغيره، وقد ذكر عبد الرزاق أن معمرًا كان يرويه أحيانًا من الوجه الآخر، فكان يضطرب في إسناده‏.‏ كما اضطرب في متنه، وخالف فيه الحفاظ الثقات الذين رووه بغير اللفظ الذي رواه معمر‏.‏ ومعمر كان معروفًا بالغلط، وأما الزهري فلا يعرف منه غلط، فلهذا بين البخاري من كلام الزهري ما دل على خطأ معمر في هذا الحديث‏.‏ قال البخاري في صحيحه‏:‏

‏[‏باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب‏]‏

ثنا الحميدي، ثنا سفيان، ثنا الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنه سمع ابن عباس يحدث عن ميمونة‏:‏ أن فأرة وقعت في سمن/فماتت فَسُئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال‏:‏ ‏(‏ألقوها وما حولها، وكلوه‏)‏ قيل لسفيان‏:‏ فإن معمرًا يحدثه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال‏:‏ ما سمعت الزهري يقوله إلا عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد سمعته منه مرارًا‏.‏

ثنا عبدان، ثنا عبد الله ـ يعني ابن المبارك ـ عن يونس، عن الزهري أنه سئل عن الدابة تموت في الزيت أو السمن وهو جامدًا أو غير جامد ـ الفأرة أو غيرها ـ قال‏:‏ بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح ثم أكل من حديث عبيد الله بن عبد الله ثم رواه من طريق مالك، كما رواه من طريق ابن عيينة‏.‏

وهذا الحديث رواه الناس عن الزهري، كما رواه ابن عيينة بسنده ولفظه‏.‏ وأما معمر فاضطرب فيه في سنده ولفظه، فرواه تارة عن ابن المسيب عن أبي هريرة‏.‏ وقال فيه‏:‏ وإن كان جامدًا فألقوها وما حولها وإن كان مائعًا فلا تقربوه‏.‏ وقيل عنه‏:‏ وإن كان مائعًا فاستصبحوا به، واضطرب على معمر فيه، وظن طائفة من العلماء أن حديث معمر محفوظ فعملوا به، وممن يثبته محمد بن يحيى الذهلي فيما جمعه من حديث الزهري‏.‏ وكذلك احتج به أحمد لما افتى بالفرق بين الجامد/والمائع، وكان أحمد يحتج أحيانًا بأحاديث ثم يتبين له أنها معلولة، كاحتجاجه بقوله‏:‏ ‏(‏لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين‏)‏ ثم تبين له بعد ذلك أنه معلول فاستدل بغيره‏.‏

وأما البخاري والترمذي وغيرهما، فعللوا حديث معمر وبينوا غلطه، والصواب معهم‏.‏ فذكر البخاري هنا عن عبد الله بن عتبة‏:‏ أنه قال‏:‏ سمعته من الزهري مرارًا لا يرويه إلا عن عبيد الله بن عبد الله، وليس في لفظه إلا قوله‏:‏ ‏(‏ألقوها وما حولها وكلوه‏)‏ وكذلك رواه مالك وغيره وذكر من حديث يونس أن الزهري سئل عن الدابة تموت في السمن الجامد وغيره، فأفتى بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح، فهذه فتيا الزهري في الجامد وغير الجامد، فكيف يكون قد روى في هذا الحديث الفرق بينهما، وهو يحتج على استواء حكم النوعين بالحديث، ورواه بالمعنى‏؟‏‏!‏

والزهري أحفظ أهل زمانه حتى يقال‏:‏ إنه لا يعرف له غلط في حديث، ولا نسيان، مع أنه لم يكن في زمانه أكثر حديثًا منه‏.‏ ويقال‏:‏ إنه حفظ على الأمة تسعين سنة لم يأت بها غيره، وقد كتب عنه سليمان بن عبد الملك كتابًا من حفظه، ثم استعاده منه بعد عام، فلم يخطئ منه حرفًا‏.‏ فلو لم يكن في الحديث إلا نسيان الزهري أو معمر، لكان نسبة النسيان إلى معمر أولى باتفاق أهل العلم/ بالرجال مع كثرة الدلائل على نسيان معمر‏.‏ وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن معمرًا كثير الغلط على الزهري‏.‏ قال الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ فيما حدثه به محمد بن جعفر غندر عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته ثماني نسوة‏.‏ فقال أحمد‏:‏ هكذا حدث به معمر بالبصرة، وحدثهم بالبصرة من حفظه، وحدث به باليمن عن الزهري بالاستقامة‏.‏

وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ ما حدث به معمر بن راشد بالبصرة ففيه أغاليط، وهو صالح الحديث، وأكثر الرواة الذين رووا هذا الحديث عن معمر عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة هم البصريون‏.‏ كعبد الواحد بن زياد، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى الشامي، والاضطراب في المتن ظاهر‏.‏

فإن هذا يقول‏:‏ إن كان ذائبًا أو مائعًا لم يؤكل‏.‏ وهذا يقول‏:‏ وإن كان مائعًا فلا تنتفعوا به، واستصبحوا به‏.‏ وهذا يقول‏:‏ ‏(‏فلا تقربوه‏)‏ وهذا يقول‏:‏ فأمر بها أن تؤخذ وما حولها فتطرح، فأطلق الجواب، ولم يذكر التفصيل‏.‏

وهذا يبين أنه لم يروه من كتاب بلفظ مضبوط، وإنما رواه بحسب ما ظنه من المعنى فغلط، وبتقدير صحة هذا اللفظ وهو قوله‏:‏ ‏(‏وإن/كان مائعًا فلا تقربوه‏)‏ فإنما يدل على نجاسة القليل الذي وقعت فيه النجاسة كالسمن المسؤول عنه، فإنه من المعلوم أنه لم يكن عند السائل سمن فوق قلتين يقع فيه فأرة، حتى يقال فيه‏:‏ ترك الاستفصال، في حكاية الحال، مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال، بل السمن الذي يكون عند أهل المدينة في أوعيتهم يكون في الغالب قليلاً فلو صح الحديث لم يدل إلا على نجاسة القليل‏.‏ فإن المائعات الكثيرة إذا وقعت فيها نجاسة فلا يدل على نجاستها لا نص صحيح، ولا ضعيف، ولا إجماع، ولا قياس صحيح‏.‏

وعمدة من ينجسه يظن أن النجاسة إذا وقعت في ماء أو مائع، سَرَت فيه كله فنجسته‏.‏ وقد عرف فساد هذا، وأنه لم يقل أحد من المسلمين بطرده، فإن طرده يوجب نجاسة البحر، بل الذين قالوا هذا الأصل الفاسد؛ منهم من استثنى ما لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الآخر، ومنهم من استثنى في بعض النجاسات ما لا يمكن نزحه، ومنهم من استثنى ما فوق القلتين، وعلل بعضهم المستثنى بمشقة التنجيس وبعضهم بعدم وصول النجاسة إلى الكثير، وبعضهم بتعذر التطهير، وهذه العلل موجودة في الكثير من الأدهان؛ فإنه قد يكون في الجب العظيم قناطير مقنطرة من الزيت، ولا يمكنهم صيانته عن الواقع، والدور والحوانيت مملوءة مما لا يمكن صيانته كالسكر وغيره، فالعسر والحرج بتنجيس هذا عظيم جدًا‏.‏

/ولهذا لم يرد بتنجيس الكثير أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه‏.‏ واختلف كلام أحمد ـ رحمه الله ـ في تنجيس الكثير‏.‏ وأما القليل فإنه ظن صحة حديث معمر فأخذ به‏.‏ وقد اطلع غيره على العلة القادحة فيه ولو اطلع عليها لم يقل به ولهذا نظائر‏:‏ كان يأخذ بحديث ثم يتبين له ضعفه فيترك الأخذ به، وقد يترك الأخذ به قبل أن تتبين صحته، فإذا تبين له صحته أخذ به، وهذه طريقة أهل العلم والدين ـ رضي الله عنهم‏.‏

ولظنه صحته، عَدَل إليه عما رآه من آثار الصحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ فروى صالح بن أحمد في مسائله عن أبيه أحمد بن حنبل‏:‏ ثنا أبي، ثنا إسماعيل، ثنا عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة‏:‏ أن ابن عباس سئل عن فأرة ماتت في سمن قال‏:‏ تؤخذ الفأرة وما حولها‏.‏ قلت‏:‏ يا مولانا فإن أثرها كان في السمن كله، قال‏:‏ عضضت بهن أبيك، إنما كان أثرها بالسمن وهي حية، وإنما ماتت حيث وجدت‏.‏ ثنا أبي، ثنا وكيع، ثنا النضر بن عربى، عن عكرمة، قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عباس فسأله عن جر فيه زيت وقع فيه جرذ فقال ابن عباس‏:‏ خذه وما حوله فألقه، وله‏:‏ قلت‏:‏ أليس جال في الجر كله‏؟‏ قال‏:‏ إنه جال وفيه الروح، فاستقر حيث مات‏.‏ وروى الخلال عن صالح قال‏:‏ ثنا أبي، ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن حمران بن أعين، عن أبي حرب بن أبي/ الأسود الدؤلي، قال‏:‏ سئل ابن مسعود عن فأرة وقعت في سمن‏؟‏ فقال‏:‏ إنما حرم من الميتة لحمها ودمها‏.‏

قلت‏:‏ فهذه فتاوى ابن عباس وابن مسعود والزهري، مع أن ابن عباس هو راوي حديث ميمونة، ثم إن قول معمر في الحديث الضعيف فلا تقربوه متروك عند عامة السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة، فإن جمهورهم يجوزون الاستصباح به، وكثير منهم يجوز بيعه، أو تطهيره، وهذا مخالف لقوله‏:‏ ‏(‏فلا تقربوه‏)‏‏.‏

ومن نصر هذا القول، يقول قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الماء طَهور لا ينجسه شيء‏)‏ احتراز عن الثوب والبدن والإناء، ونحو ذلك مما يتنجس، والمفهوم لا عموم له، وذلك لا يقتضي أن كل ما ليس بماء يتنجس، فإن الهواء ونحوه لا يتنجس، وليس بماء، كما أن قوله‏:‏ ‏(‏إن الماء لا يجنب‏)‏ احتراز عن البدن فإنه يجنب، ولا يقتضي ذلك أن كل ما ليس بماء يجنب؛ ولكن خص الماء بالذكر في الموضعين للحاجة إلى بيان حكمه، فإن بعض أزواجه اغتسلت فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ بسؤرها فأخبرته أنها كانت جنبًا، فقال‏:‏ ‏(‏إن الماء لا يجنب‏)‏ مع أن الثوب لا يجنب والأرض لا تجنب، وتخصيص الماء بالذكر لمفارقة البدن، لا لمفارقة كل شيء، وكذلك قالوا له‏:‏ أنتوضأ من بئر بُضَاعَة وهي بئر يلقى/ فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏الماء طهور لا ينجسه شيء‏)‏، فنفي عنه النجاسة للحاجة إلى بيان ذلك، كما نفي عنه الجنابة للحاجة إلى بيان ذلك‏.‏ والله ـ سبحانه ـ قد أباح لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث، والنجاسات من الخبائث، فالماء إذا تغير بالنجاسة، حرم استعماله؛ لأن ذلك استعمال للخبيث‏.‏

وهذا مبني على أصل‏:‏ وهو أن الماء الكثير إذا وقعت فيه النجاسة، فهل مقتضى القياس تنجسه لاختلاط الحلال بالحرام إلى حيث يقوم الدليل على تطهيره، أو مقتضى القياس طهارته إلى أن تظهر فيه النجاسة الخبيثة التي يحرم استعمالها للفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم في هذا الأصل قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ قول من يقول‏:‏ الأصل النجاسة، وهذا قول أصحاب أبي حنيفة، ومن وافقهم من أصحاب الشافعي، وأحمد، بناء على أن اختلاط الحلال بالحرام يوجب تحريمهما جميعًا‏.‏

ثم إن أصحاب أبي حنيفـة طردوا ذلك فيما إذا كان الماء يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطـرف الآخر‏.‏ قالوا‏:‏ لأن النجاسة تبلغه، إذا بلغته الحركة، ولم يمكنهم طرده فيما زاد على ذلك، وإلا لزم تنجيس البحـر، والبحر لا ينجسـه شيء بالنص والإجماع، ولم يطـردوا ذلك فيما/ إذا كان الماء عمـيقًا ومساحتـه قليلـة، ثم إذا تنجـس الماء‏:‏ فالقياس عنـدهم يقتضى ألا يطهر بنزح، فيجب طم الآبار المتنجسة، وطرد هذا القياس بِشر المريسي‏.‏

وأما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا‏:‏ بالتطهير بالنزح استحسانًا، إما بنزح البئر كلها إذا كبر الحيوان، أو تفسخ، وإما بنزح بعضها إذا صغر بدلاء ذكروا عددها، فما أمكن طرد ذلك القياس‏.‏

وكذلك أصحاب الشافعي وأحمد قالوا‏:‏ بطهارة ما فوق القلتين؛ لأن ذلك يكون في الفلوات والغدران التي لا يمكن صيانتها عن النجاسة فجعلوا طهارة ذلك رخصة لأجل الحاجة على خلاف القياس، وكذلك من قال من أصحاب أحمد‏:‏ إن البول والعذرة الرطبة لا ينجس بهما إلا ما أمكن نزحه، ترك طرد القياس؛ لأن ما يتعذر نزحه يتعذر تطهيره، فجعل تعذر التطهير مانعًا من التنجس‏.‏

فهذه الأقوال وغيرها من مقالات القائلين بهذا الأصل، تبين أنه لم يطرده أحد من الفقهاء، وأن كلهم خالفوا فيه القياس رخصة، وأباحوا ما تخالطه النجاسات من المياه لأجل الحاجة الخاصة‏.‏

وأما القول الثاني‏:‏ فهو قول من يقول‏:‏ القياس ألا ينجس الماء حتى/ يتغير، كما قاله من قاله من فقهاء الحجاز والعراق، وفقهاء الحديث، وغيرهم كمالك وأصحابه، ومن وافقهم من أصحاب الشافعي وأحمد، وهذه طريقة القاضي أبي يعلى بن القاضي أبي حازم، مع قوله‏:‏ إن القليل ينجس بالملاقاة، وأما ابن عقيل وابن المنى وابن المظفر وابن الجوزي وأبو نصر وغيرهم من أصحاب أحمد، فنصروا هذا ـ أنه لا ينجس إلا بالتغير ـ كالرواية الموافقة لأهل المدينة، وهو قول أبي المحاسن الروياني، وغيره من أصحاب الشافعي‏.‏

وقال الغزالي‏:‏ وددت أن مذهب الشافعي في المياه كان كمذهب مالك، وكلام أحمد وغيره موافق لهذا القول، فإنه لما سئل عن الماء إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت طعمه أو لونه بأى شيء ينجس‏؟‏ والحديث المروي في ذلك وهو قوله‏:‏ ‏(‏الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه‏)‏، ضعيف‏؟‏ فأجاب‏:‏ بأن الله حرم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، فإذا ظهر في الماء طعم الدم أو الميتة، أو لحم الخنزير، كان المستعمل لذلك مستعملاً لهذه الخبائث‏.‏ ولو كان القياس عنده التحريم مطلقًا، لم يخص صورة التحريم باستعمال النجاسة‏.‏

وفي الجملة، فهذا القول هو الصواب، وذلك أن الله حرم الخبائث التي هي الدم والميتة ولحم الخنزير، ونحو ذلك، فإذا وقعت هذه في الماء أو غيره واستهلكت، لم يبق هناك دم ولا ميتة ولا لحم خنزير/أصلاً‏.‏ كما أن الخمر إذا استهلكت في المائع لم يكن الشارب لها شاربًا للخمر، والخمرة إذا استحالت بنفسها وصارت خلا كانت طاهرة باتفاق العلماء‏.‏ وهذا على قول من يقول‏:‏ إن النجاسة إذا استحالت، طهرت أقوى‏.‏ كما هو مذهب أبي حنيفة، وأهل الظاهر، وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد‏.‏ فإن انقلاب النجاسة ملحًا ورمادًا ونحو ذلك، هو كانقلابها ماء، فلا فرق بين أن تستحيل رمادًا أو ملحًا أو ترابًا أو ماء أو هواء، ونحو ذلك، والله تعالى قد أباح لنا الطيبات‏.‏

وهذه الأدهان والألبان والأشربة الحلوة والحامضة وغيرها من الطيبات والخبيثة، قد استهلكت واستحالت فيها، فكيف يحرم الطيب الذي أباحه الله تعالى، ومن الذي قال‏:‏ إنه إذا خالطه الخبيث واستهلك فيه واستحال قد حرم، وليس على ذلك دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا قياس‏؟‏ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث بئر بُضاعة لما ذكر له أنها يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال‏:‏ ‏(‏الماء طَهور لا ينجسه شيء‏)‏ وقال في حديث القلتين‏:‏ ‏(‏إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث‏)‏‏.‏ وفي اللفظ الآخر‏:‏ ‏(‏لم ينجسه شيء‏)‏‏.‏ رواه أبو داود وغيره‏.‏

فقوله‏:‏ ‏(‏لم يحمل الخبث‏)‏ بين أن تنجيسه بأن يحمل الخبث، أى بأن يكون الخبث فيه محمولاً، وذلك يبين أنه مع استحالة الخبث لا ينجس الماء‏.‏

/ فصـــل

وإذا عرف أصل هذه المسألة، فالحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، كالخمر لما كان الموجب لتحريمها ونجاستها هي الشدة المطربة فإذا زالت بفعل الله طهرت، بخلاف ما إذا زالت بقصد الآدمي على الصحيح‏.‏ كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ لا تأكلوا خل خمر إلا خمرًا بدأ الله بفسادها ولا جناح على مسلم أن يشترى خل خمر من أهل الكتاب ما لم يعلم أنهم تعمدوا فسادها‏.‏

وذلك لأن اقتناء الخمر محرم، فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرمًا، والفعل المحرم لا يكون سببًا للحل، والإباحة‏.‏ وأما إذا اقتناها لشربها واستعمالها خمرًا فهو لا يريد تخليلها، وإذا جعلها الله خلا كان معاقبة له بنقيض قصده، فلا يكون في حلها وطهارتها مفسدة‏.‏

وأما سائر النجاسات، فيجوز التعمد لإفسادها؛ لأن إفسادها ليس بمحرم‏.‏ كما لا يحد شاربها؛ لأن النفوس لا يخاف عليها بمقاربتها المحظور كما يخاف من مقاربة الخمر؛ ولهذا جوز الجمهور أن تدبغ /جلود الميتة، وجوزوا ـ أيضًا ـ إحالة النجاسة بالنار وغيرها، والماء لنجاسته سببان‏:‏

أحدهما‏:‏ متفق عليه، والآخر‏:‏ مختلف فيه‏.‏

فالمتفق عليه التغير بالنجاسة، فمتى كان الموجب لنجاسته التغير فزال التغير كان طاهرًا، كالثوب المضمخ بالدم إذا غسل عاد طاهرًا‏.‏

والثاني‏:‏ القلة‏:‏ فإذا كان الماء قليلاً ووقعت فيه نجاسة ففي نجاسته قولان للعلماء‏:‏ فمذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه أنه ينجس ما دون القلتين، وأحمد في الرواية المشهورة عنه يستثنى البول والعذرة المائعة، فيجعل ما أمكن نزحه نجسًا بوقوع ذلك فيه‏.‏ ومذهب أبي حنيفة ينجس ما وصلت إليه الحركة، ومذهب أهل المدينة وأحمد في الرواية الثالثة أنه لا ينجس، ولو لم يبلغ قلتين، واختار هذا القول بعض الشافعية كإحدى الروايات، وقد نصر هذه الرواية بعض أصحاب الشافعي كما نصر الأولى طائفة كثيرة من أصحاب أحمد، لكن طائفة من أصحاب مالك قالوا‏:‏ إن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة، ولم يحدوا ذلك بقلتين ـ وجمهور أهل المدينة أطلقوا القول ـ فهؤلاء لا ينجسون شيئًا إلا بالتغير‏.‏ ومن سوى بين الماء والمائعات كإحدى الروايتين عن أحمد، وقال بهذا القول الذي هو رواية عن أحمد قال في المائعات كذلك، كما قاله الزهري وغيره‏.‏ فهؤلاء لا ينجسون شيئًا من المائعات/ إلا بالتغير كما ذكره البخاري في صحيحه، لكن على المشهور عن أحمد اعتبار القلتين في الماء‏.‏

وكذلك في المائعات إذا سويت به، فنقول‏:‏ إذا وقع في المائع القليل نجاسة فصب عليه مائع كثير فيكون الجميع طاهرًا، إذا لم يكن متغيرًا، وإن صب عليه ماء قليل دون القلتين فصار الجميع كثيرًا فوق القلتين، ففي ذلك وجهان في مذهب أحمد‏:‏

أحدهما‏:‏ ـ وهو مذهب الشافعي في الماء ـ‏:‏ أن الجميع طاهر‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أنه لا يكون طاهرًا حتى يكون المضاف كثيرًا‏.‏ والمكاثرة المعتبرة أن يصب الطاهر على النجس، ولو صب النجس على الطاهر الكثير كان كما لو صب الماء النجس على ماء كثير طاهر ـ أيضًا ـ وذلك مطهر له إذا لم يكن متغيرًا، وإن صب القليل الذي لاقته النجاسة على قليل لم تلاقه النجاسة ـ وكان الجميع كثيرًا فوق القلتين ـ كان كالماء القليل إذا ضم إلى القليل، وفي ذلك الوجهان المتقدمان‏.‏

وهذا القول الذي ذكرناه من أن المائعات كالماء أولى بعدم التنجيس من الماء هو الأظهر في الأدلة الشرعية، بل لو نجس القليل من الماء لم يلزم تنجيس الأشربة والأطعمة؛ ولهذا أمر مالك بإراقة ما ولغ فيه/ الكلب من الماء القليل كما جاء في الحديث ولم يأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الأطعمة والأشربة، واستعظم إراقة الطعام والشراب بمثل ذلك، وذلك لأن الماء لا ثمن له في العادة، بخلاف أشربة المسلمين وأطعمتهم فإن في نجاستها من المشقة والحرج والضيق ما لا يخفي على الناس، وقد تقدم أن جميع الفقهاء يعتبرون رفع الحرج في هذا الباب، فإذا لم ينجسوا الماء الكثير رفعًا للحرج‏.‏ فكيف ينجسون نظيره من الأطعمة والأشربة‏؟‏ والحرج في هذا أشق، ولعل أكثر المائعات الكثيرة لا تكاد تخلو من نجاسة‏.‏

فإن قيل‏:‏ الماء يدفع النجاسة عن غيره، فعن نفسه أولى وأحرى، بخلاف المائعات‏.‏

قيل‏:‏ الجواب عن ذلك من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الماء إنما دفعها عن غيره؛ لأنه يزيلها عن ذلك المحل، وتنتقل معه فلا يبقى على المحل نجاسة، وأما إذا وقعت فيه، فإنما كان طاهرًا لاستحالتها فيه، لا لكونه أزالها عن نفسه؛ ولهذا يقول أصحاب أبي حنيفة‏:‏ إن المائعات كالماء في الإزالة، وهي كالماء في التنجيس، وإذا كان كذلك لم يلزم من كون الماء يزيلها إذا زالت معه أن يزيلها إذا كانت فيه‏.‏ ونظير الماء الذي فيه النجاسة الغسالة المنفصلة عن المحل،/ وتلك نجسة قبل طهارة المحل‏.‏ وفيها بعد طهارة المحل ثلاثة أوجه‏:‏ هل هي طاهرة، أو مطهرة، أو نجسة‏؟‏

وأبو حنيفة نظر إلى هذا المعنى فقال‏:‏ الماء ينجس بوقوعها فيه، وإن كان يزيلها عن غيره لما ذكرنا‏.‏ فإذا كانت النصوص وقول الجمهور على أنها لا تنجس بمجرد الوقوع مع الكثرة، كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الماء طهور لا ينجسه شيء‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث‏)‏، فإنه إذا كان طهورًا يطهر به غيره علم أنه لا ينجس بالملاقاة؛ إذ لو نجس بها، لكان إذا صب عليه النجاسة ينجس بملاقاتها، فحينئذ لا ينجس بوقوع النجاسة فيه‏:‏ لكن إن بقيت عين النجاسة حرمت، وإن استحالت، زالت‏.‏

فدل ذلك على أن استحالة النجاسة بملاقاته لها فيه لا ينجس، وإن لم تكن قد زالت كما زالت عن المحل‏.‏ فإن من قال‏:‏ إنه يدفعها عن نفسه كما يزيلها عن غيره، فقد خالف المشاهدة‏.‏ وهذا المعنى يوجد في سائر المائعات من الأشربة وغيرها‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ غاية هذا أن يقتضى أنه يمكن إزالة النجاسة بالمائع، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد ومالك، كما هو مذهب أبي حنيفة وغيره‏.‏ وأحمد جعله لازمًا لمن قال‏:‏ أن المائع لا ينجس/ بملاقاة النجاسة، وقال‏:‏ يلزم على هذا أن تزال به النجاسة، وهذا لأنه إذا دفعها عن نفسه دفعها عن غيره كما ذكروه في الماء، فيلزم جواز إزالته بكل مائع طاهر مزيل للعين قلاع للأثر على هذا القول ـ وهذا هو القياس ـ فنقول به على هذا التقدير‏.‏ وإن كان لا يلزم من دفعها عن نفسه دفعها عن غيره، لكون الإحالة أقوى من الإزالة، فيلزم من قال‏:‏ أنه يجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات أن تكون المائعات كالماء، فإذا كان الصحيح في الماء أنه لا ينجس إلا بالتغير ـ إما مطلقًا، وإما مع الكثرة ـ فكذلك الصواب في المائعات‏.‏

وفي الجملة، التسوية بين الماء والمائعات ممكن على التقديرين، وهذا مقتضى النص والقياس في مسألة إزالة النجاسات، وفي مسألة ملاقاتها للمائعات ـ الماء وغير الماء‏.‏

ومن تدبر الأصول المنصوصة المجمع عليها، والمعانى الشرعية المعتبرة في الأحكام الشرعية، تبين له أن هذا هو أصوب الأقوال‏.‏ فإن نجاسة الماء والمائعات بدون التغير بعيد عن ظواهر النصوص والأقيسة، وكون حكم النجاسة يبقى في مواردها بعد إزالة النجاسة بمائع أو غير مائع بعيد عن الأصول، وموجب القياس‏.‏

ومن كان فقيهًا خبيرًا بمآخذ الأحكام الشرعية، وأزال عنه الهوى،/ تبين له ذلك‏.‏ ولكن إذا كان في استعمالها فساد، فإنه ينهى عن ذلك، كما ينهى عن ذبح الخيل التي يجاهد عليها، والإبل التي يحج عليها، والبقر التي يحرث عليها‏.‏ ونحوذلك؛ لما في ذلك من الحاجة إليها لا لأجل الخبث‏.‏ كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لما كان في بعض أسفاره مع أصحابه، فنفدت أزوادهم فاستأذنوه في نحر الظهر فأذن لهم، ثم أتى عمر فسأله أن يجمع الأزواد فيدعو الله بالبركة فيها ويبقى الظهر، ففعل ذلك‏)‏ فنهيه لهم عن نحر الظهر كان لحاجتهم إليه للركوب؛ لا لأن الإبل محرمة‏.‏ فهكذا ينهى فيما يحتاج إليه من الأطعمة والأشربة عن إزالة النجاسة بها، كما ينهى عن الاستنجاء بما له حرمة من طعام الإنس والجن وعلف دواب الإنس والجن، ولم يكن ذلك لكون هذه الأعيان لا يمكن الاستنجاء بها، بل لحرمتها‏.‏ فالقول في المائعات كالقول في الجامدات‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ إحالة المائعات للنجاسة إلى طبعها أقوى من إحالة الماء‏.‏ وتغير الماء بالنجاسات، أسرع من تغير المائعات‏.‏ فإذا كان الماء لا ينجس بما وقع فيه من النجاسة لاستحالتها إلى طبيعته، فالمائعات أولى وأحرى‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ أن النجاسة إذا لم يكن لها في الماء والمائع طعم ولا لون ولا ريح، فلا نسلم أن يقال بنجاسته أصلاً، كما في الخمر المنقلبة أو/ أبلغ‏.‏ وطرد ذلك في جميع صور الاستحالة‏.‏ فإن الجمهور على أن المستحيل من النجاسات طاهر، كما هو المعروف عن الحنفية والظاهرية، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، ووجه في مذهب الشافعي‏.‏

الوجه الخامس‏:‏ أن دفع المائعات للنجاسة عن نفسها كدفع الماء لا يختص بالماء، بل هذا الحكم ثابت في التراب وغيره؛ فإن العلماء اختلفوا في النجاسة إذا أصابت الأرض وذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة هل تطهر الأرض‏؟‏ على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ تطهر، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الصحيح في الدليل، فإنه ثبت عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال‏:‏ ‏(‏كانت الكلاب تقبل وتدبر، وتبول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك‏)‏‏.‏ وفي السنن أنه قال‏:‏ إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى فليدلكهما في التراب فإن التراب لهما طهور‏)‏‏.‏ وكان الصحابة ـ كعلى بن أبي طالب وغيره ـ يخوضون في الوحل ثم يدخلون يصلون بالناس، ولا يغسلون أقدامهم‏.‏

وأوكد من هذا قوله صلى الله عليه وسلم في ذيول النساء، إذا أصابت أرضاً طاهرة بعد أرض خبيثة‏:‏ ‏(‏تلك بتلك‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏يطهره/ ما بعده‏)‏ وهذا هو أحد القولين في مذهب أحمد غيره، وقد نص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وهي من أجل المسائل؛ وهذا لأن الذيول تتكرر ملاقاتها للنجاسة، فصارت كأسفل الخف، ومحل الاستنجاء، فإذا كان الشارع قد جعل الجامدات تزيل النجاسة عن غيرها، لأجل الحاجة‏.‏ كما في الاستنجاء بالأحجار، وجعل الجامد، علم أن ذلك وصف لا يختص بالماء‏.‏

وإذا كانت الجامدات لا تنجس بما استحال إليها من النجاسة، فالمائعات أولى وأحرى؛ لأن إحالتها أشد وأسرع‏.‏ ولبسط هذه المسائل وما يتعلق بها مواضع غير هذا‏.‏

وأما من قال‏:‏ إن الدهن ينجس بما يقع فيه، ففي جواز الاستصباح به قولان في مذهب مالك والشافعي وأحمد، وأظهرهما جواز الاستصباح به، كما نقل ذلك عن طائفة من الصحابة، وفي طهارته بالغسل وجهان في مذهب مالك والشافعي وأحمد‏.‏

أحدهما‏:‏ يطهر بالغسل كما اختاره ابن شريح، وأبو الخطاب، وابن شعبان، وغيرهم‏.‏ وهو المشهور من مذهب الشافعي وغيره‏.‏

والثاني‏:‏ لا يطهر بالغسل ـ وعليه أكثرهم ـ وهذا النزاع يجرى في/ الدهن المتغير بالنجاسة، فإنه نجس بلا ريب‏.‏ ففي جواز الاستصباح به هذا النزاع‏.‏ وكذلك في غسله هذا النزاع‏.‏

وأما بيعه، فالمشهور أنه لا يجوز بيعه، لا من مسلم ولا من كافر‏.‏ وهو المشهور في مذهب الشافعي وغيره‏.‏ وعن أحمد أنه يجوز بيعه من كافر، إذا أعلم بنجاسته‏.‏ كما روى عن أبي موسى الأشعري، وقد خرج قول له بجواز بيعه منهم من خرجه على جواز الاستصباح به، كما فعل أبو الخطاب وغيره وهو ضعيف؛ لأن أحمد وغيره من الأئمة فرقوا بينهما‏.‏

ومنهم من خرَّج جواز بيعه على جواز تطهيره؛ لأنه إذا جاز تطهيره صار كالثوب النجس، والإناء النجس وذلك يجوز بيعه وفاقًا‏.‏ وكذلك أصحاب الشافعي لهم في جواز بيعه إذا قالوا‏:‏ بجواز تطهيره، وجهان، ومنهم من قال‏:‏ يجوز بيعه مطلقًا‏.‏ والله أعلم‏.‏